تخيَّل أنك من سكان غزة ممن شارك في طوفان الأقصى، وما زلت ثابتاً صامداً ومقاوماً في وجه الصهاينة، تتحمل الحصار والجراح، مدركاً لشرف الشهادة، هذه صعبة عليك! لكن وعلى أقل تقدير يمكنك أن تتخيل أهل غزة، وهم يواجهون الحياة بلا ماء ولا كهرباء، بلا تعليم ولا علاج، بلا مأوى يحميهم من قصف الطائرات وحرّ الشمس وبرد الليالي، ينامون تحت السماء المكشوفة، ويصحو الرجال والنساء ليسيروا على الأقدام عشرات الكيلومترات طلباً لحفنة من الطعام لعلها تسد جوعهم وجوع أطفالهم، بينما جنديٌ إسرائيلي يقف ببندقيته على الحاجز، يطلق النار فقط لأنهم من سكان غزة. أتساءل: لماذا خذل العرب إخوتهم في غزة؟ ولماذا يقفون على مسافة واحدة بين الجلاد والضحية، بين الكيان الصهيوني الذي ارتكب وما زال يرتكب جرائم إبادةٍ تُجاوز فظاعتها ما شهدته الحروب العالمية، وبين شعب أعزل يطالب بحقه في الحياة والحرية؟ القبائل العربية تهبُّ بعشرات الآلاف عند نداء الثأر، تدفعها النخوة، تحرّم شرب القهوة حتى تقتصّ لدمٍ في مشاجرة، والإعلام ينفخ النار من تحت الرماد، بينما الصهاينة لا يفوتون فرصةً لاستغلال الفتن، ليس حباً في أحد، بل لأنهم يتقنون خلط الأوراق وإشعال الحرائق، ويتقنون فنّ إدارة الصراعات. الجيش الإسرائيلي مليء بالمرتزقة من العرب والدروز وبعض الفلسطينيين والبدو، ومن حولهم شبكة من العملاء الشيعة والسنّة والليبراليين، ومن مختلف الطوائف والملل المنتشرين في المنطقة، فليس من العدل أن نعمّم الاتهامات بسبب خيانة بعض الأفراد. إسرائيل لا تريد استقراراً لأي دولة عربية أو إسلامية، بل من مصلحتها أن تبقى شعوبنا ممزقة تعيش بالفتن الطائفية والنزاعات العرقية. لقد أتقنت أميركا والصهيونية إدارة الحروب بالوكالة، والعرب كانوا ولا يزالون الضحية الأولى لهذا الأسلوب، وما سُمّي بـ «الربيع العربي» إلا أحد تجلياته، فلنترك سورية والعراق ولبنان جانباً، ولننظر كيف مزّقوا ليبيا، وكيف دمّروا السودان، بلا وجود لدروز أو علويين. أقولها بصدق: كفاكم ذلاً وتفرّقاً وهواناً اعذروني... فما يجري في غزة من مجازر وإبادة ودمار يفوق الوصف، ونحن نزيد جراحهم بصمتنا، بل أحياناً بتبرير أفعال الصهاينة، أو بلَوم أهل غزة على مقاومتهم، ويا ليت اكتفينا، بل منّا يزودهم بالعتاد والغذاء. آهٍ من هذا الصمت، ومن هذا التطبيع المُخزي، لكن ولله الحمد كلما أصابني الإحباط تذكرت قوله تعالى «مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) (سورة الأحزاب - الآية 23).
ودمتم سالمين
----------
أ . د . فيصل الشريفي ، كاتب كويتي .
----------
القسم العربي ، الشؤون الدولية . صحيفة الجريدة الكويتية ، ٢٧ تموز ٢٠٢٥ .