الإعلام العربي المتصهين والهندسة الفكرية المضادة د. حرزالله محمد لخضر

ID: 84488 | Date: 2025/10/27
أظهرت الحرب الأخيرة على غزة التي جاءت في سياق اتفاقات التطبيع، تحولا دراماتيكيا في المنظومة الإعلامية العربية، وشهدت بعض القنوات والصحف والمواقع الإخبارية تغييرا واضحا في خطها التحريري، أين أصبحنا أمام مشهد جديد يمكن أن نصطلح عليه ب: “الإعلام العربي المتصهين”. وهو ذاك الإعلام الذي ينتصر للرواية الصهيونية، ويهاجم مشروع المقاومة، انطلاقا من الأراضي العربية وبلسان عربي وبمذيعين ومهنيين عرب.


يستخدم هذا النوع من الإعلام حقلا دلاليا خاص، وخطا تحريريا متماهيا مع التوصيفات والمصطلحات والتوجهات التي تتبناها نظيرته العبرية، فيصف الشهداء بالقتلى، والمستوطنين بالمدنيين، وأسرى العدو بالرهائن، والمقاومة بالإرهاب أو العبثية، وجيش الاحتلال بجيش الدفاع الإسرائيلي، ويركز بشكل واضح على استضافة الصهاينة وتقديمهم للمشاهد العربي باعتبارهم محللين سياسيين أو مفكرين أو صناع قرار.


ونظرا لموقع الإعلام في المجتمعات الحديثة، ودوره المزدوج من حيث: البناء أو الهدم، التنوير أو التزوير، التأطير أو التدمير، التوعية أو التعمية، فقد أدى هذا النوع من الإعلام إلى إضعاف الموقف العربي تجاه حرب غزة، وتعميق حالة الانقسام، بشكل يخدم مباشر الأهداف الصهيوأمريكية، من خلال:


1. تبرير الرواية الصهيونية وتشويه المقاومة:عن طريق: × تغييب الحقائق: فبدلاً من كشف جرائم الاحتلال، يركز هذا الإعلام على تبرير القصف والعدوان بحجة الرد على صواريخ المقاومة، وأن العدوان جاء في سياق رد الفعل وليس الفعل، متبنيا في ذلك مصطلحات صهيونية مثل “الدفاع عن النفس”، “إرهاب حماس” و”الرد على الإرهاب” و” الصواريخ العبثية”، في سياق التبرير للاعتداءات الصهيونية وكأنها تأتي ردا على استفزازات المقاومة وليست وليدة سياسة استيطانية احتلالية ممنهجة.


× تشويه المقاومة: يقدم هذا الإعلام المقاومة الفلسطينية كسبب للمعاناة في غزة والضفة، متجاهلاً الاحتلال والحصار الطويل ومعاناة الآلاف من الأسرى الفلسطينيين، ويسعى إلى إظهار المقاومين بأنهم السبب في المأساة، وليس الاحتلال الذي يحترف الحرب والقتل والمجازر منذ 1948.


× إلصاق التهم الزائفة: يروج هذا الإعلام لاتهامات كاذبة ضد المقاومة، مثل استخدام “المدنيين كدروع بشرية”، “المقاومة تقوم بتصفية المخالفين لها” وهم عملاء الصهاينة، “القادة في الفنادق والمقاتلين في الخنادق”، “أبناء القادة يتمتعون في العواصم الخليجية والشعب وحده يعاني ويلات الحرب” .. إلى غير ذلك من الروايات التي بينت الوقائع على الأرض زيفها.


2. خلق انقسام داخلي في الرأي العام العربي:وذلك عن طريق:


× تضليل الشعوب: يسعى هذا الإعلام إلى عزل القضية الفلسطينية عن محيطها العربي والإسلامي، ويعمل على إقناع الشعوب بأن “القضية الفلسطينية ليست قضيتهم” حتى بدأ البعض من السذج إلى تصديق هذه الترهة والتعبير عنها بعبارات مختلفة مثل: تازة أولى من غزة، وفلسطين ليسن قضيتي…


× تحويل الصراع من صراع وجود إلى صراع مصالح: بدلاً من إظهار الصراع كصراع بين الحق والباطل، بين صاحب الأرض والمغتصب، يُصوّره هذا الإعلام كنزاع سياسي بين طرفين، بهدف التقليل من حجم المأساة وشرعية المقاومة وبعدها العربي والإسلامي والإنساني.


× إثارة الشكوك: يروج هذا الإعلام للشائعات والمعلومات المضللة بكثافة، بهدف إثارة الشكوك في صدقية المقاومة ومواقفها، مما يضعف التضامن الشعبي معها، وذلك عن طريق ترويج فيديوهات مزيفة أو تسجيلات مبتورة وتحريفها عن سياقها.


3. عزل الأنظمة المطبعة عن شعوبها:عن طريق:


× تهيئة الأجواء للتطبيع: يلعب هذا الإعلام دوراً في تهيئة الرأي العام العربي لقبول التطبيع مع الكيان الصهيوني، من خلال الترويج لفكرة أن إسرائيل “شريك” في الأمن والاستقرار الإقليمي، وليست عدواً.


× تخفيف الضغط الشعبي: فمن خلال تشويه المقاومة وتبرير العدوان، يعمل هذا الإعلام على تخفيف الضغط الشعبي عن الأنظمة التي تسعى إلى التطبيع، ويجعل من السهل عليها اتخاذ مواقف سياسية داعمة للكيان.


الإعلام العربي المتصهين لا يكتفي بالصمت عن جرائم الاحتلال، بل يشارك بشكل فعال في إدارة الحرب النفسية والإعلامية ضد الشعب الفلسطيني وضد التوجهات الحضارية والتحررية للأمة، إنه أداة لخدمة الأجندة الصهيونية في المنطقة، من خلال تبرير العدوان، وتشويه المقاومة، وتفريق الصف العربي والإسلامي، هذا الدور السلبي يعكس حالة الانقسام والتبعية التي تعيشها الأنظمة العربية، ويظهر من خلاله كيف يمكن للإعلام أن يتحول من أداة للتوعية إلى سلاح موجه ضد الأمة، يعمل على تفكيكها داخليا وإعادة هندسة رؤيتها وإرادتها وفق إملاءات السياسة الصهيوأمريكية.


کاتب جزائري .


----------


القسم العربي ، الشؤون الدولية ، جريدة رأي اليوم .